سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أردفه بالوعد فقال: {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: إنما قال: {وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} مع أن التفريق يقتضي شيئين فصاعداً إلاّ أن أحداً لفظ يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويدل عليه وجهان:
الأول: صحة الاستثناء.
والثاني: قوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} [الأحزاب: 32].
إذا عرفت هذا فتقدير الآية: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة.
المسألة الثانية: تمسك أصحابنا بهذه الآية في إثبات العفو وعدم الاحباط فقالوا: إنه تعالى وعد من آمن بالله ورسله بأن يؤتيهم أجورهم، والمفهوم منه يؤتيهم أجورهم على ذلك الإيمان، وإلاّ لم تصلح هذه الآية لأن تكون ترغيباً في الإيمان، وذلك يوجب القطع بعدم الإحباط والقطع بالعفو وبالإخراج من النار بعد الإدخال فيها.
المسألة الثالثة: قرأ عاصم في رواية حفص {يُؤْتِيهِمْ} بالياء والضمير راجع إلى اسم الله، والباقون بالنون، وذلك أولى لوجهين:
أحدهما: أنه أفخم.
والثاني: أنه مشاكل لقوله: {وَأَعْتَدْنَا} [الأحزاب: 31].
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} معناه أن إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتحقيقه لا كونه متأخراً.
ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} والمراد أنه وعدهم بالثواب ثم أخبرهم بعد ذلك بأنه يتجاوز عن سيئاتهم ويعفو عنها ويغفرها.


{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)}
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من جهالات اليهود، فإنهم قالوا: إن كنت رسولاً من عند الله فائتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح. وقيل: طلبوا أن ينزل عليهم كتاباً من السماء إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنك رسول الله وقيل: كتاباً نعاينه حين ينزل، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت لأن معجزات الرسول كانت قد تقدمت، وحصلت فكان طلب الزيادة من باب التعنت.
ثم قال تعالى: {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت.
واعلم أن المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت، كأنه قيل: إن موسى لما نزل عليه كتاب من السماء لم يكتفوا بذلك القدر، بل طلبوا منه الرؤية على سبيل المعاينة، وهذا يدل على أن طلب هؤلاء لنزول الكتاب عليهم من السماء ليس لأجل الاسترشاد بل لمحض العناد.
ثم قال تعالى: {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ} وهذه القصة قد فسرناها في سورة البقرة، واستدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية قد أجبنا عنه هناك.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} والمعنى بيان كمال جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم فإنهم ما اكتفوا بعد نزول التوراة عليهم بطلب الرؤية جهرة، بل ضموا إليه عبادة العجل وذلك يدل على غاية بعدهم عن طلب الحق والدين، والمراد بالبينات من قوله: {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} أمور:
أحدها: أنه تعالى جعل ما أراهم من الصاعقة بينات، فإن الصاعقة وإن كانت شيئاً واحداً إلاّ أنها كانت دالة على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه، وعلى كونه مخالفاً للأجسام والأعراض وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوّة.
وثانيها: أن المراد بالبينات إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد ما أماتهم.
وثالثها: أنهم إنما عبدوا العجل من بعد أن شاهدوا معجزات موسى عليه السلام التي كان يظهرها في زمان فرعون، وهي العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها من المعجزات القاهرة، والمقصود من ذلك الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فاعلم يا محمد أنهم لا يطلبونه منك إلاّ عناداً ولجاجاً، فإن موسى قد أنزل الله عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات القاهرة، ثم أنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق.
ثم قال: {فَعَفَوْنَا عَن ذلك} يعني لم نستأصل عبدة العجل {وآتينا موسى سلطاناً مبيناً} يعني أن قوم موسى وإن كانوا قد بالغوا في إظهار اللجاج والعناد معه لكنا نصرناه وقويناه فعظم أمره وضعف خصمه، وفيه بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التنبيه، والرمز بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم، ثم حكى تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم: فأحدها: أنه تعالى رفع فوقهم الطور بميثاقهم، وفيه وجوه:
الأول: أنهم أعطوا الميثاق على أن لا يرجعوا عن الدين. ثم رجعوا عنه وهموا بالرجوع، فرفع الله فوقهم الطور حتى يخافوا فلا ينقضوا الميثاق.
الثاني: أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله الجبل فوقهم حتى قبلوا، وصار المعنى: ورفعنا فوقهم الطور لأجل أن يعطوا الميثاق بقبول الدين.
الثالث: أنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله يعذبهم بأي نوع من أنواع العذاب أراد، فلما هموا بترك الدين أظل الله الطور عليهم وهو المراد من قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم}.
وثانيها: قوله: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً} ومضى بيانه في سورة البقرة.
وثالثها: قوله: {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: {لاَ تَعْدُواْ فِي السبت}، فيه وجهان:
الأول: لا تعدوا باقتناص السمك فيه قال الواحدي: يقال عدا عليه أشد العداء والعدو والعدوان، أي ظلمه وجاوز الحد، ومنه قوله: {فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً} [الأنعام: 108] الثاني: لا تعدوا في السبت من العدو بمعنى الحضر، والمراد النهي عن العمل والكسب يوم السبت، كأنه قال لهم: اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق.
المسألة الثانية: قرأ نافع {لاَ تَعْدُواْ} ساكنة العين مشددة الدال، وأراد: لا تعتدوا، وحجته قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت} [البقرة: 65] فجاء في هذه القصة بعينها افتعلوا، ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهما ولأن الدال تزيد على التاء في الجهر، وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني منهما مدغماً ولم يكن الأول حرف لين نحو دابة وشابة، وقيل لهم، ويقولون: إن المد يصير عوضاً عن الحركة، وروى ورش عن نافع {لاَ تَعْدُواْ} بفتح العين وتشديد الدال، وذلك لأنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين، والباقون {تَعْدُواْ} بضم الدال وسكون العين حقيقة.
المسألة الثالثة: قال القفال: الميثاق الغليظ هو العهد المؤكد غاية التوكيد، وذلك بين فيما يدعونه من التوراة.


{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في متعلق الباء في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم} قولان الأول: أنه محذوف تقديره فيما نقضهم ميثاقهم وكذا، لعنادهم وسخطنا عليهم، والحذف أفخم لأن عند الحذف يذهب الوهم كل مذهب، ودليل المحذوف أن هذه الأشياء المذكورة من صفات الذم فيدل على اللعن.
الثاني: أن متعلق الباء هو قوله: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وهذا قول الزجاج ورغم أن قوله: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} بدل من قوله: {فِمَا نَقْضِهِم}.
واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجهان:
أحدهما: أن من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} إلى قوله: {فَبِظُلْمٍ} الآيتين بعيد جداً، فجعل أحدهما بدلاً عن الآخر بعيد.
الثاني: أن تلك الجنايات المذكورة عظيمة جداً لأن كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء وإنكارهم للتكليف بقولهم: قلوبنا غلف أعظم الذنوب، وذكر الذنوب العظيمة إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات العظيمة.
المسألة الثانية: اتفقوا على أن (ما) في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} صلة زائدة، والتقدير: فبنقضهم ميثاقهم، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
المسألة الثالثة: أنه تعالى أدخل حرف الباء على أمور: أولها: نقض الميثاق.
وثانيها: كفرهم بآيات الله، والمراد منه كفرهم بالمعجزات، وقد بينا فيما تقدم أن من أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل، فلهذا السبب حكم الله عليهم بالكفر بآيات الله.
وثالثها: قتلهم الأنبياء بغير حق، وذكرنا تفسيره في سورة البقرة.
ورابعها: قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} وذكر القفال فيه وجهين:
أحدهما: أن غلفا جمع غلاف والأصل غلف بتحريك اللام فخفف بالتسكين، كما قيل كتب ورسل بتسكين التاء والسين، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا غلف، أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا، فكذبوا الأنبياء بهذا القول.
والثاني: أن غلفا جمع أغلف وهو المتغطى بالغلاف أي بالغطاء، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا في أغطية فهي لا تفقه ما تقولون، نظيره ما حكى الله في قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5].
ثم قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.
فإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الأول كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم أوعية للعلم وبيّن أنه تعالى طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها، وهذا يليق بمذهبنا، وإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الثاني كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم في الأكنة والأغطية، وهذا يليق بمذهب المعتزلة، إلاّ أن الوجه الأول أولى، وهو المطابق لقوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.
ثم قال: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لا يؤمنون إلاّ بموسى والتوراة، وهذا إخبار منهم على حسب دعواهم وزعمهم، وإلاّ فقد بيّنا أن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة فإنه لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل ألبتة.

37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44